الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن
وفى قوله تعالى: {لَهِيَ الْحَيَوانُ} بدلا من لهى الحياة إشارة إلى أن الحياة الآخرة هي الحياة، بل هي أصل الحياة، وما سواها من حيوات، ظل لها، أو فرع منها.وقوله تعالى: {لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ}.اتهام لهؤلاء المشركين بالجهل والغباء، وأنهم لو كانوا على شيء من العلم لما عموا عن هذه الحقيقة، ولما آثروا الفانية على الباقية، ولما اشتروا الضلالة بالهدى... فإن العاقل العالم، من شأنه أن يميز الخبيث من الطيب، ويفرق بين الغث والثمين.قوله تعالى: {فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ} أي أن هؤلاء المشركين اللاهين الغافلين، الذين أعماهم الضلال عن الآخرة، وعن العمل لها، وعن ذكر اللّه ذكرا خالصا- هؤلاء يظلون سادرين في لهوهم وشركهم، حتى إذا ركبوا في الفلك، واستشعروا الخطر، ذكروا اللّه، وفزعوا إليه، وأسلموا وجوههم له، مخلصين له الدين، لا يذكرون وجها من وجوه آلهتهم، ولا يهتفون باسم معبود من معبوداتهم فإذا خلصوا من البلاء، ونجوا من الهلاك، ولبستهم الطمأنينة- عادوا إلى ما كانوا فيه من شرك، ونسوا ما كان منهم للّه من دعاء ومواثيق!! وهكذا المشركون في الآخرة، يوم يلقاهم العذاب، وتفتح لهم أبواب جهنم.هناك لا يجرون لآلهتهم ذكرا على ألسنتهم، بل يذكرون اللّه وحده، طالبين الغوث من هذا البلاء العظيم، قائلين: {رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ}.وأنّى لهم الخروج وقد دانهم الديّان بما كانوا يعملون؟: {قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ} [108: المؤمنون].قوله تعالى: {لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}.اللام في {ليكفروا} وفى {ليتمتعوا} هي لام التعليل.. وهو تعليل لسؤال يرد على قوله تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ} والسؤال الوارد هنا هو: لم لم يهلكهم اللّه في هذه الدنيا؟ ولم لم يعجّل لهم العذاب بشركهم هذا؟ ولم نجاهم اللّه سبحانه من الغرق، ولم يدع يد الغرق التي امتدت إلى سفينتهم تدفع بها وبهم إلى لجة الماء، فيبتلعهم اليمّ؟.والجواب: {لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا} أي ليأخذوا فرصتهم كاملة في الكفر بهذه الآيات التي تطلع عليهم من آثار قدرتنا، وليتمتعوا بما بقي في آجالهم المقدورة لهم، من أيام.وقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين الذين لم تزدهم آيات اللّه إلا ضلالا، ولم تزدهم نعمه وآلاؤه إلا كفرا.. وأنهم إذا كانوا اليوم في غفلة عن مصيرهم الذي هم صائرون إليه، فسوف يعلمون علم اليقين، هذا المصير، وسيصلون عما قليل إلى ما أعد اللّه لهم من عذاب أليم.هذا وقد قرئ قوله تعالى: {لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا} يسكون اللام في {وليتمتّعوا} وهذا يعنى أن الأسلوب أمر، يراد به التهديد والوعيد.قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ}.هو استفهام إنكارىّ، ينكر فيه على هؤلاء المشركين كفرهم بآيات اللّه، وجحودهم النعم التي يعيشون فيها من فضله وإحسانه... فقد اختصهم اللّه سبحانه من بين العرب جميعا، بهذا البلد الحرام، الذي ألقى في قلوب العرب جميعا توقيره، وتوقير ساكنيه.. وبهذا عاش هؤلاء المشركون في ظل هذا البلد الحرام، آمنين لا ينالهم أحد بسوء، على حين يعيش الناس من حولهم، في خوف وفزع، وفى بغى وعدوان، لا يأمن أحد على نفسه، وأهله وماله، من أن تطلع عليه في أية لحظة، عاصفة تأتى على كل شيء!.هكذا الحياة في هذه الغابة التي لا يتعامل فيها ساكنوها إلا بالظفر والنّاب، ما عدا هذه البقعة المباركة منها، فقد حماها اللّه، وحمى أهلها من كل عادية.. {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [4: قريش].أفلا يرى هؤلاء المشركون تلك النعمة الجليلة؟ ألا يذكرون فضل اللّه عليهم بها؟ ألا يخلصون له العبادة؟ ألا يتركون عبادة هذه الدّمى التي شوّهوا بها وجه هذا الحرم، وجعلوها أندادا للّه؟ {أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ}؟ ألا ما أسخف عقولهم، وما أخفّ أحلامهم! قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ}.وإن هؤلاء المشركين لظالمون معتدون، بل إنهم لأشد الناس ظلما وأكثرهم عدوانا.. إنّهم افتروا على اللّه الكذب، فخلقوا هذه الدّمى، وأعطوها ما شاءوا لها من أسماء، وجعلوها آلهة يعبدونها من دون اللّه، وقالوا: {ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى}.ثم إنهم حين جاءهم رسول اللّه، يكشف لهم وجه هذا الباطل، ويفضح هذا الزّور، ويقيم لهم طريقا إلى اللّه، قائما على الحق- كذّبوه، ولم يقبلوا الهدى الذي معه.. إن ذلك جرم غليظ، لا تتسع له أية عقوبة في هذه الدنيا، وإنه ليس إلا جهنّم ونكالها، وبلاؤها، جزاء يجزى به هؤلاء الكافرون.. {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ}؟وبلى.. إن فيها لمكانا لكل من كفر باللّه، وكذّب بآيات اللّه.قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.بهذه الآية الكريمة تختم السورة... فيلتقى ختامها مع بدئها، ولقد بدئت السورة بإيذان المؤمنين بالابتلاء، وملاقاة الفتن على طريق الإيمان، وأن استمساك المؤمن بإيمانه يقتضيه جهادا وتضحية، بالنفس والمال، والأهل والولد، والوطن، وكما يقول سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} كما يقول سبحانه في آية أخرى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً} [186: آل عمران].وهذا الختام الذي ختمت به السورة، هو وعد كريم من اللّه سبحانه وتعالى المؤمنين الذين يجاهدون في سبيل اللّه، ويحتملون ما يلقاهم على طريق الجهاد من ضرّ وأذى- أن يهديهم اللّه، ويثبّت أقدامهم على سبيله... لأنهم سعوا إلى اللّه، فتلقاهم اللّه بإمداد عونه، وتأييده، ونصره، فكان لهم الغلب، وكانت لهم العزّة في الدنيا، وجنات النعيم في الآخرة.وفى قوله تعالى: {جاهَدُوا فِينا}... إشارة إلى هذا الجهاد الذي يجاهده المؤمن، وأنه جهاد للّه، وفى سبيل اللّه، وإعزاز دينه، ونصر كلمته.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [40: الحج].ومعنى الجهاد في اللّه، الجهاد في كل ما هو للّه- مما جعله حمى له، جل شأنه.وفى توكيد الفعل {لنهدينّهم} توكيد لوعد اللّه، وأنه وعد أوجبه اللّه سبحانه على نفسه، كما يقول سبحانه: {وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [47: الروم] وفى قوله سبحانه: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} تطمين لقلوب المؤمنين، وإشعار لهم بأن اللّه معهم، بعزته وقوته، وسلطانه.. ومن كان اللّه معه، فهو في أمان من أن يذلّ أو يهون: {أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [22: المجادلة] وفى وصف المجاهدين في سبيل اللّه بأنهم محسنون، إشارة إلى أن الجهاد في جميع صوره، هو إحسان، وأن المجاهد محسن، لأنه يأخذ طريق الإحسان، ويسلك مسالكه، على حين أن غير المجاهد مسيء، لأنه يركب مراكب الضلال، ويهيم في أودية الباطل... فحيثما كان الإنسان مع اللّه سبحانه وتعالى، فهو في جهاد.. فإذا قهر المرء أهواء نفسه، ووساوس شيطانه، فهو مع اللّه، وفى جهاد في اللّه... وإذا انتصر الإنسان لمظلوم، فهو مع اللّه وعلى جهاد في سبيل اللّه... وإذا قال المرء كلمة الحقّ، وردّ بها باطلا، وسفّه بها ضلالا، فهو مع اللّه، وفى جهاد في اللّه.. وإذا حمل المرء سلاحه، ودخل الحرب تحت راية المجاهدين فهو مع اللّه، وفى جهاد في اللّه.إن سبل الجهاد كثيرة، وميادينه متعددة... بالقول، وبالعمل، باللسان وبالسيف، ولعلّ هذا هو السرّ في جمع السبيل في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا}.فهناك أكثر من سبيل يصل به المؤمن إلى اللّه... لأنها جميعها قائمة على الحق، والعدل، والإحسان وصدق اللّه العظيم.
|